«مجهولات» الفرنسي باتريك موديانو: رؤى فلسفية في تأويل المشاعر

23

24qpt870

يبدو اننا بحاجة إلى وقت طويل حتى نتمكن من فهم الخريطة الإبداعية لعوالم الروائي الفرنسي الحائز جائزة نوبل للآداب، باتريك موديانو، بسبب عدم شهرته وانتشاره الواسع في العالم، فهو كما قال سكرتير الجائزة أستاذ التاريخ البريطاني بيتر انجلاند: «إنه معروف جدا بفرنسا، ولكن ليس متأكدا إن كان معروفا عالميا».
أعماله (كما قيل) وأضعها بين قوسين، لأننا لحد الآن لم نتمكن من قراءة مراجعات دقيقة حوله بالإمكان الاستناد اليها، هي أعمال تدور حول الهوية والزمن والذاكرة، كما سأوضح في هذه القراءة لاحقا.
فوز كاتب مجهول بالنسبة للمتلقي العالمي سيغلق الباب أمام فرص الانتقادات مؤقتا، فالانتقاد، حين تلقي خبر هوية الفائز/ة بالجوائز عادة ثقافية عالمية، وليست عربية فقط. ثاني نقطة إن باتريك بشكل عام عندما نقرأ بعض المراجعات البسيطة عنه سنتعرف على اهتمامه بموضوعات الذاكرة والهوية والزمن وخلفيته اليهودية المتأتية من رصده لحياة معذبة بالملاجئ بعد الهولوكوست، وتأثير ذلك على اليهود في العالم الغربي، مما قد يكون أحد الأهداف الخفية لتذكير القارئ العالمي بعذابات اليهود في الغرب بشكل متجدد، ولا سيما ان اليهود يخشون أي حالة لاستدعاء الهوية العربية القومية.
حقيقة، بطبعي أنا لست ممن يقبلون على نصوص الجوائز، ويشتغلون على قراءتها نقدا وتحليلا وتمجيدا، لأنها صادرة عن جائزة عالمية أو عربية شهيرة، فالجائزة ليست مقياس تمكن بالنسبة لي، ولكنها تمثل أيديولوجية المؤسسة ولجنة التحكيم، ولا أقصد بالأيديولوجيا التطرف الفكري لعقيدة ما، ولكنها منظومة الأفكار التي تشكل رؤية الإنسان للكون والأدب، ولا يشترط ان هذه الأيديولوجية بالضرورة تستهويني.
بهذه المرة وسط الاحتفاء الثقافي العربي، والتساؤل الجماعي عن أعمال موديانو، وجدت نفسي أقرأ روايته «مجهولات» وهي لحسن الحظ مترجمة إلى اللغة العربية منذ ثمانية أعوام. وجدت بها من الإشارات والتفاصيل والرموز الخاصة بالهوية الإنسانية ما يشدني للكتابة عنها، فهي تنطلق من رؤى معرفية فلسفية ونفسية قادرة على تأويل بعض مشاعرنا المجهولة تجاه العالم، لذا وجدتني مأخوذة بالكتابة عنها محاولة تأمل تفاصيلها.
الرواية بنيويا مكونة من ثلاثة أجزاء، كل جزء منها يمتد إلى خمسين صفحة، ويقدم حكاية إحدى النساء المجهولات الثلاث، مجهولات الاسم والمصير وفاقدات للرؤية المستقبلية، أو حتى لقراءة الحاضر، قراءة واعية عبر ضمير المتكلم، فكل رواية تنبثق من ضمير المتكلم لسرد الحكاية الشخصية، وهو ما أراه إعطاء صوت للشخصية الأساسية وامتلاك حقها في التعبير عن رؤيتها للوجود عن طريق التبئير الداخلي.
الرواية تدور حول ثلاث فتيات من خلفيات اجتماعية متقاربة، وبظروف أسرية متشابهة وأسر مفككة، يبحثن عن المفقود والضائع منهن على طريقة بروست والبحث عن الزمن الضائع، بلغة تصويرية حية للأماكن التي تتنقل بها الشخصيات. وفي ما يلي تحليل الشخصيات الثلاث تبعا لتصوراتهن لهوياتهن:

الفتاة الأولى:

هي الراوية التي تروي قصة ضياعها وتشرذمها في عالمها الصغير من هروب إلى هروب، من ليون المظلمة تحديدا تغادر إلى مدينة النور باريس. بعد فشلها في الحصول على وظيفة عارضة أزياء، التقت بشخصية أخرى تشاركها ضياعها القدري، وهروبها من أي انتماء. لتقدم القصة الأولى نموذجين من إنتاج القرن العشرين، باحثين عن الاستقرار والإبصار بنور المدينة. شخصية تعاني من هروب وتنصل مستمر من أي علاقة إنسانية، مثلها مثل بقية الشخصيات سهلة الانقياد، والوقوع في العلاقات، وتتحدث عن الآخر بوصفه آخر مستقلا، وليس (أنا) مندمجة معه، لأنها تتحدث عن الآخر بشكل محايد من دون أي عاطفة، فمثلا عندما غادرت من ليون لم تلتفت لرأي أهلها، وعندما سألها صديقها عن رأيهم باستقرارها بباريس قالت: «أربكني السؤال، لم أفكر بأهلي للحظة واحدة وأنا أغادر ليون»، لذا هي لا تشعر بالانتماء إلى أهلها، وارجأت فكرة العودة عندما تستقر ظروفها أكثر. حتى على الصعيد العاطفي لم تكن علاقتها مع غي فانسان سوى محطة عبور إنسانية. وبالالتفات لغي فانسان، فهو له حكاية أخرى مع الهوية تبدأ من اسمه المستعار كقناع لشخصية معذبة عانت من الحرب والتسلل، ليختار اسمه الذي تكتشف، في ما بعد، أنه ليس اسمه:»صرخ أحدهم عدة مرات: غي. فتنبهت إلى أن اسمه أيضا غي، لكنه لم يتحرك. لم أكن عرفت بعد أن هذا ليس هو اسمه الحقيقي». (الرواية، ص30)
وعندما تعلم باسمه فهو يرفض أن تناديه باسمه الحقيقي لأنه اعتاد عليه، فهو بالنسبة له: «يعكس الحيوية، الربيع واللون الأبيض، اسم مطمئن، ومن ثم هذا يخلق مسافة». (ص:35) بالضبط هذا ما كان يريده، أن تأخذ هويته شكلا آخر، كستار يخفي هويته القديمة المعذبة والعابرة لكثير من الحدود. فبعد الحرب تسلل مرتين، وفي واحدة من المرات فشل فأخذه الجنود في الأغلال. لذا نجده أيضا يهرب من ماضي تشرده وحرمانه بحذاء جيد، والحذاء هنا رمز لمسيرة الشوك التي خطاها بنفسه بين الملاجئ، والسفر من مكان لمكان يحمل ذاكرة متقدة بالحرمان في طفولته. فالهوية المضطربة تخلق لها هوية بديلة تستعيد فيها ما هو مفقود وضائع وتعوضه بالبديل دوما. لذا نجده يقول للساردة: «من الممتع أن يمشي المرء مرتديا حذاء جديدا لا يتشرب الماء، يجب أن نستغل حياتنا القصيرة». (ص:43) فالحذاء رمز للمسيرة الشاقة له، التي يحاول استبدالها بالجديد دوما. كما ان الحذاء رمز تم استخدامه في الرواية لتعبير عن الخطى التي تقود الأشخاص إلى مسارات غير معلومة.
بالعودة إلى الراوية فهي تتقن التسلل وتتوق للهرب من أي انتماء، أن تهرب من فانسان كما هربت من ليون، من دون قبلة واضحة، تقارن بينها وبين من يعثرون عليهن في المياه، «مازلت فتاة شقراء مجهولة الهوية.. غالبا ما يطلقون على الفتيات اللاتي يتم انتشالهن من مياه (الساون) أو (السين) صفة مجهولات الهوية، أو غير المعروفات.. أما أنا، فأتمنى أن أبقى هكذا للأبد..».(48). وكأن المياه هنا رمز للتحول وعدم الثبات والاستقرار، فهي مثل ممن ينتشلن، على الرغم من إنها تعرف أهلها، لكن صورتها الشخصية لم تتضح بعد.

الفتاة الثانية:

أكثر الشخصيات تراجيدية، هي صاحبة القصة الثانية، التي تبدأ بوفاة والدها وهي في سن الثالثة، وزواج أمها من شخصية غريبة الأطوار، علمت أمها القسوة والبخل، من بعدها عاشت مع خالتها التي لديها هي أيضا عقدة مع الرجال، لذا تشكلت وهي تحمل ذاكرة غير واضحة المعالم: «ذكريات طفولتي ليست جيدة ولا سيئة، اعتقد أن كل شيء كان سيتغير لو أن أبي ظل حيا، كنت سأنسجم وإياه» (50)
كل هذه الرواسب في الطفولة محملة بالحرمان من الأم وهي موجودة، شكلت عندها عدم انتماء، وهروبا للأبعد، لأبعد من ليون، وتمردا على العادات والتقاليد والقوالب التي تصنعها المدارس الداخلية، فكانت بشوق للاختلاف بشرب خمر، أو بالاستماع إلى صوت مختلف عن النغمة السائدة راديو صغير، أو جلسة ثنائية، وهو أمر ممنوع بالمدرسة الداخلية. كما كانت تواقة للبعد عن المكان، عملت خادمة مع سيدة استبشرت بقولها إنك ستذهبين بعيدا، ولمفارقة الأقدار ان هذا الـ»بعيد» سيكون هو القتل في جنيف، التي كانت تشعر بضيق من الذهاب لمكان الجريمة بنبوءة استباقية لما ستقوم به من قتل لأحد العاملين بالقصر، لأنه أراد الاعتداء عليها. فهي بالنهاية تثور على كل النماذج السابقة التي حاولت ان تضعها في قوالب السلبية والتبعية والمغلوب على أمره، وكأنها اكتفت مما رأت فأرادت الانتقام على هذه السلبية بقتل الخادم بمسدس أبيها. وهي بالنهاية تدرك انها تستعيد هوية أبيها من خلال المضي على طريقه كـ»رأس محروقة»، أي متهور. « أمي وخالتي لم تتكلما معي عنه أبدا، وكأنما أرادتا نسيانه، وكأنه بالفعل بقعة ظل كبيرة. والآن فهمت، أنني بالنسبة لهما، كنت جزءا من هذا الظل، لهذا كانتا تعاملانني بلامبالاة». (69).

الفتاة الثالثة:

كانت الفتاة الثالثة أفضل الفتيات حظا، لأنها كما سنرى بعد قليل وجدت من يضيء لها الطريق، وتمكنت من أن تستوعب هذه الفرصة جيدا، فبعبثية مفرطة أتت إلى باريس، بعدما كانت بلندن تعمل في باركليز، ولكن بعدما استغنى عنها المحل، قررت القدوم لباريس وحراسة محل صديق لها أوصاها بذلك، تعيش بروتين يومي قاتل بين التجول بشوارع باريس، وحضور أفلام السينما والجلوس في المقاهي، إلى أن تلتقي بأستاذ الفلسفة، الذي انتشلها من المفقود والضائع، مثل فقدها للصورة التي تجمع بينها وبين صديقها رونيه والكلب. ويتضح إن سبب حزنها كان عدم الحصول على الصورة التي أضاعها محل التصوير «تساءلت عما قد يفعل ذلك الأسمر بصورتنا» (ص: 121)، ولكن الحزن لم يكن خاصا بالصورة، بل بالحالة الإنسانية التي عاشتها مع صديقها كالحب والوئام، فحزنها كان مصدره فقد الحب ليس الصورة، وما الصورة إلا قناع، تخفي فيه فقدها، كما تكشف عن علاقتها بالمكان بناء على علاقتها بالآخر رمز الحب، فقرب الآخر هو النعيم، وبعده جحيم يتطلب الهروب: «نحن أيضا، أنا و (رونيه)، عندما كنا نتنزه كانت هذه الشوارع والحدائق مألوفة لدينا لدرجة أنها كانت جزءا منا. أما الآن، فالصلة قد انقطعت، كنت أشعر في كل تلك الأماكن وكأنني أعود إليها بعد مماتي». (ص: 122).
كان التقاؤها بأستاذ الفلسفة كيروردانهو محطة عبور من الضياع إلى اكتشاف الذات، عبر كتاب «استعادة الذات»، وفق فريق «التليفون» وهو فريق عمل متكامل يؤسس لهذا الفكر في استعادة الذات القائمة على مجموعة من الأسس توجه الناس إلى حياة أفضل، وهو ما ساعدها في هذا الاكتشاف المتأخر: «اكتشفت بخجل شديد، أنني لم أتساءل أبدا عن معنى الحياة، اكتشفت بأن أعيش يوما بيوم باحثة في الغالب عن المتعة». (130)
وبذا تنتقل من مرحلة الوعي السطحي للحياة إلى وعي أعمق جعلها تقرر البقاء في الحي لفترة أطول لكي تنهل المزيد من تعاليم استعادة الذات.
موديانو وضع النموذجين الأولين للضياع والتلاشي والدوران في دوائر مفرغة فمن الهرب، إلى القتل، بينما كان النموذج الثالث نموذجا إيجابيا لامرأة تجاوزت الظلام إلى النور واستعادة ذاتها من خلال منارات المعرفة المضيئة.
بشكل عام الرواية تدور حول أزمة وجودية جماعية تعيشها الشخصيات الثلاث، يحاولن المرور وإيجاد الذات، عبر الاحتمالات المطروحة والضيقة جدا، فكأن كل فرد في هذا النظام الإنساني محاصر بشكل كبير بعدد من الظروف الاقتصادية والاجتماعية تجعله يكون ما يكون عليه بسلبية تامة ماعدا النموذج الثالث الذي انطلق عبر الحل المعرفي لاكتشاف الذات واستعادتها عبر التفكير بأن يكون الإنسان فاعلا لا مفعولا به. الرواية أيضا وبوجهة نظر نفسية ركزت على مراحل الطفولة بوصفها مراحل حازمة في تشكيل الهوية الإنسانية، مثلما حدث بالحكاية رقم (2).
ويبدو ان رؤية الروائي متسربة في النص التالي من كتاب استعادة الذات، الذي أراد من خلاله توجيه النقد للحياة الاجتماعية كنتاج ثقافي للقرن الماضي، بعد الحرب العالمية الثانية: «نحن نعيش كما يبدو، كمن يسير في نومه. كل حركاتنا آلية، وبالتالي خالية من أي قيمة. نحن نعيش في رقاد. حركاتنا وأفكارنا وأحاسيسنا تصبح آلية لأننا نحصر أنفسنا في «وضعيات» وحركات تكبلنا في أغلال. يجب إذا الخروج من تلك الحالة، وهذا لا يتحقق إلا عبر استعادة الذات».

عن صحيفة القدس العربي \ سعاد العنزي

 

التعليقات مغلقة.